اكتب كتاب تفصيلي عن تجاربك الحياتية الناجحة والمتعصية بطرق سهلة وخطوات بسيطة
تجربتي مع الكتاب
عندما دعيتُ مُمتناً للمشاركة في هذه الندوة بمناسبة يوم الكتاب العالمي، أوعز لي
أن أتحدث عن خبرتي الشخصية مع الكتاب، لا كورق وحبر بين دفتين مركون إلى
رف في مكتبتي، وإنما كحاضن معرفي فكري أسهم في صياغة نظري ونهجي في
الحياة. لذا في عرضي سأحاول ما أمكن رسم معالم سيرتي الفكرية المعرفية مع
الكتاب منذ أبكر ما أتذكر وصولا إلى حيث أنا عنده اليوم من نظر ونهج.
*لأبدأ مباشرة بالسؤال: ما دور الكتاب في حياتي؟
**وجوابي: الكتاب كان ولا يزال المعلم الأول في تكويني الفكري المعرفي. منذ أن
وعيت على نفسي أكاد لا أذكر يوما لم أجلس فيه إلى كتاب.
أذكر … صديق قديم زارني يوما قبل سنوات في شقتي في روي وأنا جالس
لوحدي بين كتبي، فأشفق علي من العزلة، وقال: ماذا تصنع وحدك بين هذه الكتب؟
ألا تستوحش؟ ألا ينتابك سأم؟ فأجبته: هي تبدو لك كتبا، وهي كذلك، ولكن بين
دفتي كل كتاب شخص أدار نظره في شأن من شؤون الحياة، ثم أفرغ خلاصة
نظره في الكتاب، وحظي أنه بذلك مكنني من أن أتعرف على فكره ومعرفته، وإن
لم أتعرف عليه شخصيا. من هنا استئناسي بالكتاب هو في الحقيقة استفادة من
عطاء واضعه.
في مكتبتي اليوم قرابة ألف كتاب، أقدمها – بمعيار قِدم اقتنائي له – كتاب باسم
جامع المقدمات وهو ما درست فيه على يد عالم ديني بمطرح أواخر الأربعينات.
ثاني أقدم كتاب لدي هو بالإنكليزية باسم الفلاسفة السياسيون و اقتنائي له كان
عام 1952 بمملكة البحرين. الكتاب الأول يحتوي على مقدمات في بعض علوم
العربية، كالصرف والنحو والمنطق وعلم الكلام والفلسفة … والكتاب الآخر يعرض
الفكر السياسي لبعض أبرز فلاسفة الغرب: جون ستيوارت مل: عن الحرية، جين
جاك روسو عن العقد الاجتماعي، هنري ديفيد ثورو عن العصيان المدني، جون لوك
عن منشأ ومدى ونهاية الحوكمة المدنية، كارل ماركس عن البيان الشيوعي، آدم
سميث عن ثروة الأمم، وفريدرك هيغل عن التاريخ الفلسفي.
*وما نوع الكتاب الذي كان جليسي المفضل؟
**هو الكتاب الذي ليس فقط ساق لي معرفة فيما جهلت، بل أيضا ابتعث لدى
التفكير فيما عرض، وأثار توقا في نفسي لمعرفة أعمق وأعرض، ليس في العلوم
العربية الإسلامية فقط، وإنما أيضا في فكر وعلوم الحضارات الأخرى، وفي
مقدمتها حضارات الصين والهند والغرب – كل واحدة من تلك بأنساقها الثلاثة:
الديني والفلسفي والمعرفي.
هنا أيضا أذكر من أربعينات القرن الماضي أن أستاذا لي أسمه جواد الخابوري، وكان
على مستوى معرفي متقدم في العلوم الإسلامية والمعارف العصرية بسواء، مر
يوما على والدي بدكانه بسوق مطرح، وأنا أيضا حاضر، فقال له والدي مستبشرا:
ألاحظ على صادق أنه يقرأ في كتاب الكافي – (كتاب الكافي للكليني هو بمثابة
أحد الصحاح لدى الشيعة.) فاعترض أساتذي قائلا: لا يحسن لناشئ أن يقرأ في
مثل هذه الكتب الدينية العويصة. الأجدى لصادق أن يقرأ كتبا معاصرة يستفيد
منها تناسبا مع سنه. فوقع كلام الأستاذ مني موقع الإرشاد.
*وما الذي دلني إلى الكتاب؟ ما الذي آلفني به حتى اتخذته جليسا يفيد ويؤنس،
ولا يُمَل؟
**الذي دلني أن الوالد، رغم كثرة مشاغله، كان يفرغ وقتا للمطالعة ويذكر لي من
حين لآخر شيئا مما قرأ واستحسن. ولأن ما كان يذكر لي أحيانا لم يكن من
المعرفة
المألوفة في المجتمع آنذاك، كالعهد العربي الإسلامي في الأندلس، أو حملات
اسكندر العظيم … صرت أدرك أن ما يأتيني به الوالد مصدره الكتاب. قلت في
سري: إذن دعني أتجه إلى النبع بنفسي ما أمكن.
*وماذا كانت، من بعد ذلك، مجالات القراءة المأثورة لدي على نحو مستدام؟
**بداية، كانت قراءات في الأديان، تلتها قراءات في الفلسفة، تلتها قراءات في
العلوم الطبيعية، رغم محدودية الأهلية لدي للتعمق في هذا المجال الأخير. من
هذه الروافد الثلاثة انتسج مُدركي الفلسفي لطبيعة الوجود، وتكون نظري حول
هذه الحياة التي نتشاركها لأجل قصير على هذا الكوكب السيار.,, واعيين طبعا أن
أجيالا لا تحصى قد وطأت أديم الأرض من قبلنا، وأجيالا من بعدنا ستطأ.
*وماذا عن قراءات في السياسة – علما أنني عملت بضع سنوات في الصحافة في
الكويت في الستينات، ثم عشر سنوات في العمل السياسي/ الدبلوماسي في
خارجيتنا خلال السبعينات وشطرٍ من الثمانينات؟
**نعم، قراءات في الإعلام والسياسة والاقتصاد وقضايا التنمية عنيتُ بها فترة من
الزمن، لكنها لم تشكل لدي يوما صلب الاهتمام. تركيزي المعرفي ظل، ولا يزال، في
الدين والفلسفة ومحاولة فهم السنن الطبيعية وتمظهراتها في الواقع المعاش.
*وماذا قرأت في الأديان؟ ماذا قرأت في الفلسفة؟ ماذا قرأت في السنن الطبيعية؟
ثم، ماذا استخلصت إجمالا من كل هذا الذي قرأت في الكتب التي لا تزال تملأ
رفوفا من حولي؟
**في الأديان قرأت أن الدين القيم واحد، وهو المتوائم مع الفطرة التي فطر الله
الناس عليها … أن تعددية الأديان لا تنفي وحدة الإنسانية، فالناس طرا خلقوا من
نفس واحدة، ويخضعون لناموس واحد … أن تعددية الأديان والمذاهب لا تنفي
وحدة الوعي الإنساني الفطري بوجود الخالق ووحدانيته، وهي أيضا لا تنفي وحدة
المُدرك المعرفي بالسنن الطبيعية، فمن مُدركنا المشترك بالسنن الطبيعية تتكون
المعرفة المشتركة التي ندرسها في معاهدنا وجامعاتنا، وهي ما يعمل بها الناس
تطبيقيا في تدبير سائر أمورهم الحياتية عبر العالم.
**في الفلسفة قرأت أن كل واحد منا يتفلسف، بمعنى أنه يخمن طبيعة الوجود
على وجه أو آخر، ويفسر أمور الحياة من خلال ما يعلم ويختبر. ومع أنه يدرك
محدودية علمه وقصور خبرته، إلا أنه لا يملك إلا أن يعمل بما يعلمه تحقيقا
ويختبره صحيحا. من الأمور ما هي بسيطة وشخصية، كأن كيف يُعنى أحدنا
بصحته، ومنها ما هي معقدة وذات طابع عام،، كأن كيف يكوّن أحدنا نظره في
قضايا كالديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمساواة بين الناس وكرامة الإنسان وما
يتصل بتلك المبادئ والمفاهيم من حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، هذا فضلا عن
تكوين النظر في طبيعة الوجود ومصير الإنسان بعد الموت. ولعلي أذكر لكم مرورا
أن أول تعرفي على تعريف للفلسفة كان من قرأءتي في سن مبكر رواية كاونت دي
مونتي كرستو للروائي الفرنسي ألكسندر دوماس. كان المشهد في الرواية حوارا
مرسلا بين شاب غرير وعالم غزير العلم جمعتهما عزلة زنزانة سجن. ذكر العالم
عَرَضا الفلسفة فتساءل الفتى: وما الفلسفة؟ فأجاب العالم بإيجاز شديد: إنها
المعرفة الإجمالية التي تنتسج في الذهن من استيعاب مختلف المعارف.
**في السنن الطبيعية قرأت أنها مستودع مشيئة الله، لذا لا تبديل لها ولا تحويل،
فهي ذاتها السارية في الكون بأسره: على كوكبنا هذا كما في أقصى جرم في أنئى
مجرة في الكون…. مشيئة الله تسري بإحكام، تهيمن على كل صغيرة وكبيرة في
كل حركة وظرف وزمن. ومن هذه السنن ما تحكم الحال الإنساني بقسطاس
مستقيم … لا تحابي أحدا ولاتجافي أحدا … لا تعلي فردا على فرد، ولا أمة
على
أمة، إلا بقدر ما يتسق الأفراد والأمم في مناهجهم ومسلكياتهم مع مقتضيات
المشيئة الإلهية المؤصَلة، مسبقا وجذريا، في السنن الكونية والحياتية التي لا
تُعترض ولا تُرد.
*وما هي الأفكار الأساس في الشأن الإنساني التي استخلصتها من قراءاتي في الكتاب؟
**في تهذيب الشأن الإنساني وإنمائه للأوفى والأمثل، على صعيد فرد أو مجتمع،
استخلصت أفكارا ست، واستنتجت أنه بقدر التزام الإنسان بهذه الأفكار وتطبيقه
لها بشكل جاد وأمين في الواقع المعاش يستقر وضعه، يعلو شأنه، وتطيب حياته.
**الفكرة الأولي هي أن البشر جنس واحد … ما يصدق في حال أي فرد أو
مجتمع،
يصدق في حال سائر الأفراد والمجتمعات: أي أن العوامل المؤثرة أيجابا أو سلبا
في أحوال الأفراد والجماعات هي نفسها بالنسبة للناس
في كل زمان ومكان. بتعبير أدل: هناك ميزان كوني واحد يزن ويجازي أعمال
الناس كافة، أفرادا وأمما، ثوابا وعقابا، بقسطاس مستقيم.
**ليس هذا بكشف جديد، فلطالما أخبرت عن وحدة الحال البشري، وعن القسط
الكوني الذي يحكمه، أدبياتُ مختلف الشعوب، أصيغت في دين أو في فكر فلسفي.
من بين فلاسفة الإغريق، مثلا، نجد أن سقراط وأفلاطون وأرسطو في تنظيرهم
حول مسألة الأخلاق، رأوا الحال البشري حالا مشتركا، وأبصروا من وراء تعدد
خبرات الناس ومكتسباتهم وحدة جوهرية من حيث قدرة الناس جميعا على
الإدراك عقلا لما يصلح ويرقي به حال الإنسان وما يفسد ويتدنى به، فردا ومجتمعا،
أيا كان الإنسان وأيا كانت بيئته وخلفيته. لدى الرومان نقرأ للأمبراطور الفيلسوف
ماركس أوريليوس قناعته بوجود مسار واحد للناس كافة صعودا وهبوطا على
المدرج الحضاري – “مسار واحد لكائنات تتماثل جسما وعقلا”، حسب تعبيره.
تجربتي بكتابة كتاب